c14n3.gif

قصة من واقع العراقيين يكتبها باسم الجابري

عاش اكثر من عام وهو يتنقل بين دهاليز بيئة لم يعتادها من قبل ، حتى رماه الاضطرار الى السكن اخيرا في غرفة مظلمة متهالكة لايستطيع ان يعيش فيها انسان .
فبعد هروبه العام الماضي من تهديد المليشيات له ولعائلته ، لم يجد ” وليد” ملجئاً ياويه وعائلته المتكونة من زوجة شحب لون وجهها وهي ترافقه منذ اربع سنوات ، وطفلين بعمر الورد يكاد ينشطر جسد اصغرهما نصفين من شدة البؤس الذي حمّله اياهم ابوهما نتيجة كتاباته اللاذعة التي كان ينتقد فيها التشكيلات المسلحة التي نشات وترعرعت خارج نطاق الدولة ،والتي طالما كانت سببا في ازهاق الكثير من الارواح البريئة في هذا البلد .
التقيت “وليد” بعد فراق معه قارب الستة شهور لم اعرف مصيره ولم تصلني منه اية رسالة او معلومة ، كانت الصدفة طريقي لهذا اللقاء ، فقد شككت بان هذا الرجل الذي يمشي مسرعا امامي هو “وليد” الذي اعرفه منذ عشر سنين ، عندما كنا نسكن منطقة الغزالية في بغداد ، درسنا معا ، وتشاركنا هموم الوطن ، ودخلنا عالم الصحافة والاعلام سوية ، وكان له عمودا ثابتا في احدى الصحف المحلية ، ينتقد فيه الظواهر السلبية في البلد ، ويطرح الحلول الناجعة في التخلص منها ومحاربتها ، يدافع عن الفقراء والمساكين والابرياء ، ويهجم بقلمه اللاذع على الساسة والسراق والفاسدين ، لايهمه ان كان سياسيا ذو نفوذ او سياسيا وضيعا يبيع شرفه ومبدأه من اجل المال ، فـ “وليد” يكتب ما يراه مسؤولية في عنق اي صحفي وكاتب عراقي يحب بلده ويرجو له الخير .

قبل ستة اشهر

في تلك الليلة ، اتصل بي ” وليد” وفي صوته بحة غريبة لم اعهدها فيه : “تعال بسرعة الى بيتي ” ، اغلق الهاتف وحاولت ان اعيد الاتصال به مجددا لافهم الموضوع اكثر ، فلم اجد سبيلا سوى ان اسرعت بسيارتي نحو مسكنه الاخير القريب من بيتي ، فاستوقفني رجل برفقته امرأة تحمل طفلا واخرا تجرجره بيدها ، انه “وليد” وعائلته .
_”خير يا وليد ماذا جرى ؟”
– “اسرع فانهم يلاحقوننا” قال هذه العبارة وهو يدخل زوجته وطفلاه الى السيارة بسرعة ويغلق الباب ويركض باتجاه اخر .
ومع سماعي لزوجته وهي تختنق بعبراتها وتقول له “لا تذهب يا وليد اتركهم اتركهم” ..
لم اسالها حينها من هم ولماذا لانني اعلم انه كتب قبل اسبوع مقالا ضد المليشيات التي تعبث بامن البلاد وخصوصا بمنطقته التي يسكنها الكثير من ابناء الطائفة السنية ، فعرفت انهم من وراء ذلك .
بقي تفكيري في وليد وفي عائلته التي اوصلتهم لمنزلنا ننتظر عودته ، لا اعرف كيف اتصرف والى اين اتجه حتى مضت ساعة واذا بشبح يقترب من باب المنزل ، فلما اقترب تبين لي انه “وليد” ..
– “لم اعد قادرا على البقاء في هذا البلد” قالها وهو ينظر الى عائلته وقد اغرورقت عيناه دمعا .”فهؤلاء عرفوا مكاني وهددوني بقتلي وقتل عائلتي ان بقيت هنا”
– “والى اين تتجه صديقي العزيز ”
– سارتب اموري لاسافر الى اوربا عن طريق تركيا” واسترسل وليد وهو يستخرج عباراته بشيء من الحرج ” هناك لي صديق ممكن ان يساعدني في الوصول الى اوربا”.
عزم وليد امره وودعته في المطار ووعدني ان يبقى على تواصل معي ، وفعلا ارسل لي وليد اكثر من رسالة ووصلتني عن طريق معين بعض اخباره ، لم تكن حياته مستقرة ايضا هناك ، حتى عرفت انه سيغادر تركيا عبر بوابة اليونان وبواسطة بعض المهربين بمبلغ معين من المال ، يوصلونه الى هنغاريا او المانيا .
ومضت ايام ولم اعرف خبر عن “وليد” حاولت ان اتصل ببعض الاصدقاء في تركيا علهم يعرفون عنه خبرا ما ، لكن لا شيء يفرح او يحزن .

اللقاء المؤلم
ومضت ستة اشهر لم اسمع عن وليد اي خبر ، حتى تعودت ان اخرج كل ليلة الى مكان طالما كنا نذهب اليه سوية نرتشف الشاي ونتكلم عن الاوضاع في البلاد ، وهو يكلمني عن مقالته الجديدة ، ويأخذ رايي فيها ، شعرت هذه الليلة ان المكان ضاق بي وان انفاسي بدت تضيق شيئا فشيئا فخرجت اتمشى قليلا ..فاذا برجل يمشي مسرعا امامي ، شعرت انه يحاول الهروب مني او من شيء ما ..لا اعرف لماذا تخيلت انه “وليد” واقتفيت اثره بسرعة ، وصلت بقربه ..انه “وليد” فعلا انه “وليد” .
كيف ؟، ولماذا؟ ، ومنذ متى ؟ واسئلة كثيرة دارت في مخيلتي قبل ان انطق  بكلمة .
– وليد ، لماذا تهرب مني ؟
-“انا  لست “وليد” ، انا مجرم قتل اعز الناس لديه ”
احتضنني واجهش بالبكاء ، ولم يرفع راسه من كتفي الا بعد ان هدأ فاخذته الى مكاننا المعتاد وجلسنا قليلا .
– “ماذا حل بك يا “وليد ” ومن هم الذين قتلتهم ؟ ”
تنهد وليد واجهش بالبكاء ثانية ، ثم استفاق ليقول لي :” بقيت في تركيا قرابة الخمسة اشهر ، ابحث عن طريق يخرجني انا  وعائلتي من تركيا الى اوربا ، وعود كثيرة استلبت مني الكثير من المال ، واكاذيب عشتها مع اناس وثقت بهم ، حتى او صلوني لمهرب تركي اتفقنا ان يوصلنا الى حدود المانيا ، عبر البحر ، الكثير من العراقيين نصحوني بخطورة هذا الطريق ، وخصوصا ان معي امرأة وطفلين صغيرين لا يقدران على صعوبة الطريق وخطورته ، لكن انا كنت استبسط الامور وخصوصا بعد ان سمعت ان الكثير من العوائل تم استقبالهم في المانيا ووضعوهم في مخيمات جيدة وتكفلوا بتمشية معاولات الهجرة لهم ، خرجنا من تركيا  الى اليونان عبر جزيرة في البحر ، قيل لنا ان هذه الجزيرة تعود لليونان وان خفر السواحل سيقبضوا عليكم ويدخلوكم الى اليونان ومنها الى الدولة التي تريدون التوجه اليها ..
مضت ساعات وساعات وانا  انظر الى اطفالي وهم يتلوعون من شدة الحر ،وسط جزيرة لا نعرف مكانها ولا اسمها، حتى حل علينا الظلام وجاء الينا مهربون اخرون طلبوا مبلغا من المال كي يوصلونا الى اليونان ، بمركب مطاطي لا يتسع الى اكثر من عشرة اشخاص ، لكن الموجودون معنا يفوقون الخمسين شخصا نساء ورجالا واطفالا ، ركبنا اكثر من عشرين شخص في المركب الذي سار بنا وسط البحر في ظلام دامس لا نكاد نرى بعضنا البعض ، حتى حصل ما حصل ولم اجد نفسي الا وحيدا مرميا في ساحل نفس الجزيرة التي تركناها منذ اقل من ساعة “.
عاد وليد لبكائه ، ولكن هذه المرة ارتفع نشيجه وهو يقول : ” انا قتلتهم ، كان بمقدوري البقاء هنا وتحمل الاذي ، لكنني كنت اناني وسطحي التفكير، كيف جازفت باعز الناس لدي وخاطرت بحياتهم ؟؟ انا المجرم ..انا المجرم ولن اسامح نفسي ابدا “.
حاولت ان اهديء من روعه .. لكن صعوبة الموقف وتخيل الوضع الذي فقد فيه “وليد” عائلته جعلتني لا استطيع التكلم ببنت شفه .
عندها فكرت في الاف العوائل العراقية والسورية التي ذهبت ضحية المآسي والويلات التي سببها لهم الارهاب الحكومي والارهاب الدولي ، وما قصة “وليد ” الا واحدة من الاف القصص التي عاشها شعب هذين البلدين موخرا بسبب سياسات حكامهم حتى جعلوا ابناء البلد يفكرون ان يجازفوا باغلى ما عندهم من اجل الخلاص من بطش الارهاب بكل اشكاله .
الان لا يزال وليد يعيش مع ذكريات زوجة وطفلين ساقهم بيأسه من العيش بامان في بلد بات تحكمه المليشيات اكثر مما تحكمه دولة ذات قانون الى مصير محتوم ليكونوا طعاما لاسماك البحر المتوسط .lljywn-lswrywn-fy-lywnn_3

* (الصور من الارشيف)