11143500_872802849441571_8088047026136410586_o

باسم الجابري / العراق / الديوانية

قاربت الساعةُ الخامسةَ عصراً .. بدأ الكثير من الشبابِ يتجمهرونَ في الشارعِ الرئيسي المؤدي الى مبنى الحكومةِ المحليةِ في مدينتي ، أعلامٌ ،ووردٌ ،وابتساماتٌ ،وصيحاتٌ من هنا وهناك ، وإعلاميون يستعدونَ لنقل هذا الحدث الاسبوعي المميز ،، إنشارٌ كثيفٌ لقواتِ الأمنِ ،لاتكادُ تفارقُ مُحيّاهم الابتسامةُ والضحكةُ كأنهم في سفرةٍ مدرسيةٍ ، كلُّ شيءٍ يوحي بانسيابيةٍ وجماليةٍ لم نشهدها في التظاهراتِ السابقة .

11903822_878405965547926_3057208963655008227_n11938878_905066312912016_75109149_n

رافقتُ زميلي مراسلُ إحدى القنواتِ الفضائيةِ لأستطلعَ بعضَ الآراءِ من هنا وهناك ، إمرأةٌ كبيرةٌ في السنِّ مقعدةٌ يقودُ كرسيّها صبيٌ مصابٌ بـ “متلازمةِ داون” عرفتُ فيما بعد أنه ولدها الوحيد ، اتجهنا صوبها فقالت بصوتٍ مسموع ” انا لا أحب أن التقي بالفضائيات ، إبتعدوا عني ” .
فحاولتُ بمزحةٍ أن اعترضَ طريقَها قائلاً :” جدتي أنتي الخيرُ والبركةُ ونحن هنا نستمتعُ برؤيتكِ بين المتظاهرين” .
– “أنتم غير صادقين معنا ، أكثر من مرةٍ تلتقونَ بي ولمْ ارَ نفسي في أيّةِ قناةٍ،أنتم تضحكونَ علينا” موجهةً كلامَها صوبَ زميلي وترمقني بنظراتٍ عابرةٍ خاطفةٍ وقصيرة .
ضحكنا ووعدناها أنها ستظهرُ هذه الليلة من على القناة الفضائية بشرطِ أن ” تخبرينا سببَ تواجدَك بين المتظاهرين ” .
– ” انا إمرأةٌ وحيدةٌ أعيشُ مع ولدي هذا ، بعدَ أن رحلَ عنا أبوه ضحيةَ الارهابِ الطائفي عام 2006 ، وتركَنا دونَ مُعيل ، فاضطررتُ – وانا مقعدةٌ منذ عشرين سنة – أنْ أعملَ ببيعِ العصائرِ والمياهِ المعدنيةِ كي أعيل البقيةَ الباقيةَ لعائلتنا “
واسترسلتْ “أمُّ عماد” حيث سمعنا أسمها من احد المتظاهرين وهو يلقي عليها التحية ” والآن نفذَ صبري وهذا حفيدي يحتاجُ الكثيرَ من التعليمِ والملابسِ والعنايةِ التي أعجزُ ان أوفرها بالارباح الزهيدة من عملي المتعب هذا “
تركْنا “أمُّ عماد” تروي لنا بعضَ المآسي من حياتِها التي انعكستْ على ملبسها وتقاطيعِ وجهِها الأسمر ” المفروض أن أحصلَ على مكافأةٍ بسببِ فقدي لزوجي نتيجةَ صراعاتِ السياسيينَ الطائفيينَ ، لكنهم رموني رميَ “الكلاب” ولم يسأل عني أيّ مسؤولٍ حكوميٍّ أو دينيٍّ حتى ، فليس عندي شيءُ أخسره لو خرجتُ ورفعتُ صوتي أطالب بحقي وحقَّ ولدي هذا الذي ترونهُ، أنا أعلمُ أنّ الحكومةَ فاسدةً ولا تعيرَ اهميةً للناسِ الفقراءِ لكن كما قلتُ لكم ليس لديّ شيءٌ اخسرَه اكثرَ من اللذي خسِرتَهُ من قبل ” .

11940177_567226563419808_197320950_n
ودّعْنا “ام عماد” وسرنا بين المتظاهرين الذين طغى عليهم إرتداءُ العلمَ العراقي ، حتى لفتَ انتباهَنا برعمٌ صغيرٌ يحملُ علماً عراقياً صغيراً ويهتف بصوتٍ عالٍ ” يا مالكي شيل ايدك ..حتى الطفل مايريدك ” استوقفنا أمامهُ وقلنا له : ” لماذا تتظاهر ؟”
فبهتنا جميعناً عندما قال لنا :” ضد اللصوص الذين يسرقون العراق “
– وماذا تريدُ أن تكونَ في المستقبل عندما تكبر؟
– أريدُ ان أكونَ عراقياً فقط !!
أدمعتْ عينايَ وأنا أرى هذا المنطقَ من قبلِ طفلٍ شعرَ بتهديدٍ كبيرٍ على عراقيته ..
هنا التفَتُّ الى زميلي وتسائلنا بينَنا ..مَنْ الذي يريدُ سرقة عراقيةَ العراقيين ؟؟
وكيفَ التفَتَ هذا الطفلُ لقضيةٍ ربّما غابتْ عن الكثيرِ من المتظاهرين ..إنّ الخطرَ ليسَ بفقدانِ الحقوقِ فقط .. بل الخطرُ ألاكبر بسرقةِ عراقية وعروبة هذا الشعب ..

11870769_875574982497691_3970734839546406364_n

هنا التقطنا أنفاسَنا قليلاً وجلسنا جلسةً قصيرةً على أحدِ الأرصفةِ لنستمتعَ برؤيةِ  أحدَ العسكر وهو يقومُ بتوزيعِ قناني الماءِ الباردِ على المتظاهرين .. عندها شعرنا بسعادةٍ ونحن نشاهدُ هذا الزحفِ الجماهيري الكبير ..وننتظرُ إصلاحاتٍ وحلولٍ من حكومةٍ ربّما أصمّتْ أعينها قبلَ آذانها عنْ رؤيةِ وسماعِ معاناة هذا الشعب .

* الصور بعدسة الفنان التشكيلي حيدر لفتة